يشق علي أن أمسك القلم لأكتب هذه السطور..راجعت نفسي مئة مره وأكثر..أمسكت الورقة وقلبتها في كل إتجاهاتها ثم مزقتها قبل أن أنقش فيها كلمة واحده..
وجلبت اخرى..نفس البياض السابق,نفس النظرة البلهاء,نفس السطور تحدق بي بإستغراب لكأنها تستحلفني..
القلم لونه حزين,لا يريدني أن أرى دموعه تسيل وأنا ألقي بثقل يدي وهمي عليه,أتكئ على أردافه,وأعتمد عليه في أن يدمرني..
وقبل أن أبدأ الكلمة الأولى..سقطت دمعة القلم دونما إستئذان,لطخت صفحة الورقة البيضاء,وبدأت تدغدغها الى أن تسربت في الأعماق..
رغم كل شئ..رغم تعبي وحزني..وألمي وضياعي..ووجعي وحسرتي...إبتسمت!!
أعجبني المشهد كثيراً..فكيف يمكن لدمعة حزن أن تدغدغ الأشياء لتسعدها فتلتحم معها في جسد واحد؟!!!
ألقيت نظره مقربه على بقعة اللونأمامي وأنصت جيداً..لعلها تهمس الى الورقة بشئ....
"...لا تسمحي له أيتها الورقة بأن يكتب عليك مالا تريدين..إن الإنسان إذا ما كتب شئ أوجعه أحبه(فهذا في عرفهم) وأنت لا ترضين بأن يحب تلك الأمور التي سيكتبها؟ أوتذكرين؟
كم من الأمور السعيدة قد كتب..وكم من الإبتسامة قد رسم على وجوه الحاضرين؟ أوتذكرين؟
كم كنت سعيدة وأنت تقرئين وتترنمين بالكلمات المنقوشة على صدرك؟أوتذكرين؟
كم احببته وهو يحتضنك بعد كم سطر يكتبه فرحاً.. أوتذكرين..وتذكرين؟
لذا يجب عليك أن لا تسمحي له بأن يدنس هذا الإرث الذي إحتفظتي به كل هذه السنين..ما سيكتبه الان خارج عن إرادته,خارج عن رغبته..الان هو فاقد لكل أشكال التوازن..ألا ترين؟! إن أي سطر سيكمله عليك سيزيده تورطاً ويأساً,وسيملئ وجهك بأشكال من البكاء..قد لا تتحملين..فراغات كثيره,شطبٌ أكثر من كل السطور.. وعلامات إستفهام بعد كل كلمه..رائحة الخوف التي ستنبعث منك ستلازمك,والحروف المسجونة بين ضفتي سطورك ستسجنك..
إسمعي قولي ..تمردي..إنفعلي..أو مزقي نفسك إن لم يعد هنالك سبيل.."
أخرستني الدهشه..
فأملت نفسي على البقعه أتأملها بعنايه,وأتفحص حدودها وأطرافها.. هززتها فلم تبدي حركه..صرخت فيها بأنني قد سمعت ما قالت فلم تعرني إنتباهاً..أنصت من جديد..فلم أسمع سوى السكوت والصمت الرهيب..
أيعقل أن أكون قد وصلت الى هذا الحد من الجنون؟!
هززت القلم مستجدياً ليسقط دمعةً اخرى..هززته بقوه.. نفضته,رججته,صارعته..إستحلفته..ولكن دونما جدوى...
كنت حينها أبكي على غير عادتي..لم ألحظ ذلك إلا بعد أن سكنت خيولي الجامحه,وأعدت القلم الى الطاوله وقد غلبني صموده.. نظرة الى الورقة من جديد..كانت تحاول أن تمسح وجهها بعد أن غسلته دموعي الهوجاء..نظرت بإستغراب فاق حد تأملي..
كانت هناك بقعةٌ كبيره في المنتصف..تكونت من تجاور الصغار ومعانقتهم لبعضهم إحتفالاً بهروبهم من قسوة أحزاني..
وهناك حيث تقبع دمعة القلم الناصحه للورقه بين السطور الأولى.. قفزت بقعة صغيرة من عيني إستقرت في السطر الثالث بعد سطرها..هنا خيل إلي بأن الورقة تستنجد..أحسست بأنها تنتفض من فرط الألم والوجع..وتحاول أن ترمم بسطورها بعض الإختراقات.. الشفافية والذوبان...
نظرت الى النقطة المتحدية في الوسط..فتراء إلي بأنني قد رأيت صورتي تنعكس عليها..تتماوج دونما إستقرار..
ما أغرب هذا الوجه الممتلئ بالحسره!! أهذا أنا حقاً؟! لم أعد أعرف ملامح تواجدي..كل شئ مختلف,أهي السنين أم الأحزان التي راكمتني؟
لامست الورقة بيدي المرتجفه..حاورتها بنظراتي علّي أخفف عنها ما تعاني..أهو اللون القاتم أم الفراغ الذي يؤلمها؟!
هجمت علي فكره أعجبتني..نظرت الى ألوان متعددة من أقلامي وبدأت أنفذ الخطه..
صارعتها جميعاً..بكل أحجامها و ألوانها وأنواعها..
صخبٌ ملئ الأجواء بالجنون..الصفحة تستحلفني بأن أوقف الأمطار المفروضة عليها..الفيضان ات دونما توقف يحمل شعار كل الألوان..الورقة صارت محطمه,بدأت تحرك ردفيها كمحاوله لصد هجوم يوشك أن يفض عذريتها..الجنون صخبٌ يملئُ الأجواء والأوراق..
لن تصبح دموعي وحيده في أرض سطرتها السنين والأيام..لم أعد أفكر بالكتابة الان..مجرد النظر إلى وجه الصفحة يملؤني يقيناً بأن الدموع أقوى من كل الحروف..
وإنتهت المسرحيه..وسكنت الضجة بيوت التعب لتستريح..
فنظرت إلى السطور أمامي وأنا أبتسم من السعاده..كانت لوحةٌ لا كتابه..تجانسٌ في كل شئ..في الأدوار والأمكنه..أبطال روايتي نقاطاً حملوا على عاتقهم أن يملؤ الساحة بالالوان.. خرائط مدن.. وجه إمرأة..أشجارٌ.. أم أنها البحار والشطأن..
كل من ينظر إليها يرى كل ما بداخله من أوجاع والام ..
تحكي قصة كفاح..أو قصة عشق..أو لربما هي تروي عن خيانة الدهر والأزمان..
الان يأضع توقيعي عليها في أسفل الأمكنه..في نهاية المسرحيه يخرج المخرج لهذه الملحمه..يرى يأثيره على الأعين المحرقه المغمضه..
هكذا سأفعل..سأوقع الان دونما تردد..
وليكن توقيعي أو تسلسل للنقاط يحمل معناً مفهوماً..
مُشاكس